تغوص في أعماق الخليج العربي بحثاً عن الأسرار…

مصورةٌ عربية تعَجبُ من أمر "عاريات الخياشيم"

اوراق _ سلَّمت بقوانين الأعماق ونفذَّتها دون جدال؛ ومع ذلك تتجمد علا خلف من الخوف كلما مرّت أسماك القرش والدلافين بجوارها؛ وتحاول عبثاً أن تهدّأ من دقات قلبها المتلاحقة ممتنعة عن إصدار أي حركة، ثم تلجأ لحيلة مضحكة حين تتظاهر بالموت؛ وفيما عدا تلك اللحظات فإن أستاذة التصوير الفوتوغرافي “التحت مائي” ومدربة الغوص تستشعر صفاءً لا يعهدهُ صخب اليابسة؛ هنا فقط تنشغل بتأمل السَكينة التي تعيشها المخلوقات البحرية.وفق مجلة افاق البيئية.

عملت عُلا المصرية المقيمة في دولة الإمارات لسنواتٍ طويلة مدربةً للتصوير الضوئي بمختلف مجالاته لا سيما تصوير “البورتريه” والمنتجات؛ إلى أن قررت أن تنتقل لمجال حافل بالمخاطرة؛ لترصد عدستها كائنات من مختلف الأشكال والألوان ما هي إلا آيات عظيمة تسبح في الظلمات بسلام.

قمة الإثارة

وُلدت الحكاية قبل عامين تحديداً حين قررت العمل بمقولة المصور الفرنسي هنري كارتييه بريسون “ما عليكِ سوى العيش لتهديكِ الحياة الصور”؛ فـلديها كاريزما تتسم بالانفتاح على الحياة؛ وطاقتها الدفاقة بالحب والمرح تشهد.

 تستهل الحديث مع “مجلة آفاق البيئة والتنمية” بابتسامة غمرت لغة الجسد خاصتها: “حدث ذلك حين تحدَّاني صديقٌ يُعد من كبار المصورين تحت الماء؛ قائلاً لي: “الغوص محفوفٌ بالصعوبات فما بالكِ بالغوص والتصوير معاً”؛ وبكل شجاعة قبلتُ التحدي”.

وتعمل خلف (42عاماً) الآن مُحكّمةً دولية في جائزة حمدان آل مكتوم للتصوير الضوئي في دولة الإمارات، وبعد إثباتها جدارتها في التصوير، حصلت من أكبر منظمة عالمية للغوص “بادي” على شهادةٍ تُمنح للغواصين المحترفين؛ ونشر لها مؤخراً تقريرٌ في مجلة ناشيونال جيوغرافيك “النسخة العربية”.

رحلة الغوص

“مغامرة محسوبة” إنه الوصف الذي تجده مناسباً للغوص على صعيد اتخاذ إجراءات الأمان والسلامة وفق مستوى عالي الدقة، بدءاً من نسبة استهلاك الهواء تحت الماء وليس انتهاءً بالتحكم في مهارات الغوص و”الطفوية”؛ فكلاهما تحديان يعترضان الغواص المصور تحت الماء.

استعدادات ما قبل الغوص تتلخص في البحث عن موقع الغوص المطلوب وعما يمكن إيجاده فيه؛ والبحث الجيد حول أنواع الكائنات ومواسمها قبل الغوص؛ وتجهيز مُعدَّات الغوص؛ وتحضير أدوات التصوير والعناية بها بالشكل اللائق وتجربتها قبل الغوص للتأكد من جاهزيتها.

في الشهور الأولى من دخولها تحت الماء راودها شعور “غريب جداً”؛ تفسره بالقول: “أن اتنفس من اسطوانة هواءٍ وأسبح في بيئة غريبة تحوي الكثير من الكائنات الغريبة عني أيضاً؛ إنها تجربة في قمة الإثارة والتحدي”.

وإذا ما رأى أحدهم أن حقلاً كهذا لا يناسب الأنثى؛ فإن الثقة سترتسم على ثغرها؛ إنها الثقة نفسها حين تكون في أعالي البحار؛ لتقول له: “مع أن هذا التخصص رجاليّ بعض الشيء لما فيه من تحدياتٍ جسدية وتنّقل وغيرها؛ لكن بفضل الله جميع من حولي قابلوا هذا التحدي باحترامٍ بالغ؛ إنه عمل رائع زادني إصراراً على النجاح”.

وبعين مجرِبة تنجح في اختزال المشهد بكل وضوح؛ ذلك أن التصوير في عالم عجائب المخلوقات لطالما حبس أنفاسها لفرط الدهشة؛ فالعلاقات تحت الماء والتكافل بين الكائنات أصابها بالذهول، ناهيك عن أساليب التمويه غير المتوقعة التي تستخدمها الكائنات البحرية لتحمي نفسها من هجمات الكائنات الأخرى مما يدعو الانسان إلى التفكر بعمقٍ في صنع الخالق.

قليلٌ من الانتظار

من وراء “قناع الوجه” لا ترمش عينا علا أمام أسرارٍ لا حصر لها في الأعماق السحيقة الزاخرة بالتنوع؛ تشحذ همتها لاكتشاف المزيد من النذر اليسير يوماً تلو آخر؛ ووسط أجواء مفعمةٍ بالرهبة يحلو لها الغوص ليلاً؛ فهو من أمتع الأوقات التي تنشط أثناءها أغلب المخلوقات وتتصرف بشكل طبيعي إذ لا تكون معرضة للافتراس كما في النهار بسبب التخفي؛ وفقاً لتجربتها.

تتحدث عن سرٍ “خرافي الجمال”: يعجز الإنسان حقاً عن تفسير سلوك المخلوقات البحرية، بالكاد كتمتُ شهقتي حين رأيت التزاوج بين عاريات الخياشيم؛ إنه من أغرب ما شهدتهُ تحت الماء، فهي تمررّ مادة هلامية من “بزاقٍ” للآخر كي تتم عملية التزاوج؛ لحظات من أجمل وأندر ما قد يراها الغواص المصور تحت الماء”.

عاريات الخياشيم وعلا

وتهيم علا حباً بعاريات الخياشيم “البزاق البحري” وهو من الحيوانات الرخوية البطنية القدم البحرية؛ هي محقةٌ في إعجابها بهذا الكائن متناهي الصغر الذي لا يتجاوز طوله 5 ملليمترات؛ ذو الألوان الزاهية والحركة الانسيابية، وتعقبّ بشأنه: “علاقة هذا الكائن بما حوله تثير الاستغراب، فهذه الألوان الرائعة تخفي في داخلها سُميّة تحول دون جعله وجبة جيدة للكائنات الأخرى فيعيش بسلام”.

عاري الخياشيم المسمى “بيكاتشو” يتبوأ الصدارة في صورها المفضلة؛ لذا تصفه بدقة: “هو كائن أصفر جسمه شفاف؛ ولا يقدر المصور على إبراز هذا الجمال بطرق التصوير العادية، فقد اعتمدتُ طريقة التصوير بالإضاءة الصغيرة المُركزّة كي أضيء الجسم بمعزلٍ عن البيئة المحيطة حتى يظهر جماله الاستثنائي؛ كلّفتني هذه الصورة العديد من الغوصات والتجارب لإتقان هذا النوع من الإضاءة و إذ بالنتيجة تفوق الحدود”.

صائح وإرشادات

قد تغوص كل يوم؛ وإذا ما كان العمق قليلاً فإن مدة البقاء تحت الماء تصل لساعتين كحدٍ أقصى؛ علماً أن أعماق الغوص تتراوح عادة بين 5- 25 متراً.

وتحذر الكابتن علا من خطأ فادح قد يُكلف صاحبه حياته: ” ينسى المصور تحت الماء للحظات أنه ليس ضمن محيطه الطبيعي، مغفلاً أن كمية الهواء المتبقية له قد دخلت مرحلة الخطر؛ وبما أني مدربة غوص وأعمل وفق معايير عالية لم يحدث أن تجاوزت مرحلة الخطر؛ حيث لا يوجد شيء يمكن أن يُقارن بالمحافظة على حياتي”.

وترى أن مصور أعماق البحار يتعين عليه التحلي بالصبر في سبيل التقاط “اللحظة الجيدة” كي تخرج صورة تسحر الألباب؛ يلمع الشغف في كلماتها التي انتقتها بعناية: “قليلٌ من الانتظار كفيلٌ أن يريكِ ما يصدر عن المخلوقات من تصرفات وحركات طبيعية دون الخوف من الغواص أو من الحركة غير الطبيعية؛ ولا تسأليني عن روعة النتائج”.

وتذكر أن قواعد التصوير تحت الماء تختلف عن غيرها من أنواع التصوير على صعيد الإضاءة وتوازن “اللون الأبيض”؛ كما أن النزول لأعماق بعيدة يلزمه توفير معداتٍ قوية بغية تحمل الضغط والمحافظة على الكاميرا؛ مما يتطلب مهارات غوص احترافية جداً بل غير عادية، للتحكم بالكاميرا وأدوات التصوير الثقيلة والتي تعيق الحركة تحت الماء بشكل كبير.

وحسب خبرتها فإن التصوير تحت الماء يقتضي ممارسة مهارتين في آن واحد، الغوص والتصوير، وعندما ينقص (الغواص المصور) أياً من هذه المهارتين، يعجز عن تحقيق ما يدور في مخيلته، منتقدة وبشدة الذين يبدأون التصوير قبل احتراف مهارات الغوص.

غنائم بصرية

علا تتلقى كل الدعم من زوجها الفلسطيني عالم الأحياء والمتخصص في “علم الحيوان” البروفيسور نورمان خلف والذي لا ينفك عن مناداتها بـــ: “لؤلؤتي”؛ مشجعاً إياها على عمل كل ما هو مستحيل من وجهة نظر الكثيرين، وفي ذلك سبب وجيه تبينه زوجته: “اهتمامه بالكائنات والصور التي أخرجها لا يقل عن اهتمامي لأنها تعد المادة الأساسية لأبحاثه العلمية، أفخر أننا شكلّنا معا ثنائيا ًمثاليا ًلأبحاث ما تحت البحار؛ مما يبقي حماسنا مُتقداً لاكتشافات قادمة”.

تؤكد علا أن البيئة البحرية في الخليج العربي والمحيط الهندي المطلّة عليه دولة الإمارات غير مكتشفة؛ وذلك لقلة عدد الباحثين والغواصين في هذه البحار؛ لذا ارتأت أن تكون مسؤولة عن نقل كنوز القاع التي يغفل الناس عنها.

في هذا الاختيار القدري كان إلى جانبها أمين سر جائزة مكتوم المصور العالمي علي بن ثالث؛ والذي تعبر عن امتنانها له بالقول:” هو بالنسبة لي أستاذ وأخ بل أنه من أروع المصورين تحت الماء؛ أدخلني عالم التصوير تحت البحار؛ وشد من أزري في كل خطوة خطوتها، وبفضل نصائحه التي يسديها لي وصلت إلى هنا”.

ولا تنسى نصيحته لها التي تتلخص بالتالي: “تريثي كثيراً قبل التقاط أية صورة لكائن معين؛ وامنحي نفسكِ وقتاً قصيراً لمراقبته إلى أن تقتنصي أفضل وضعية لهذا الكائن”.

الكائنات الصغيرة أكثر خطراً

وفيما إذا كان الغوص يترك آثاراً بعيدة المدى على الصحة؛ تؤكد بدورها أن عدم الالتزام بمعايير السلامة له تبعاته لا سيما أن معدات الغوص ثقيلة للغاية؛ كما أن عدم مراعاة الوقت المحدد مع العمق المحدد قد يؤدي إلى كوارث صحية؛ لأن تأثير النيتروجين المتراكم في الجسم خطير.

وترغب الكثير من الفتيات بخوض التجربة ويرون في “الكابتن علا” ملاذاً رائعا لتعلم الغوص واكتشاف عالم ما تحت الماء؛ ويسود الانفتاح في تدريبها لهم لتتبادل معهم التعلم، لا سيما حين يبادرون بأفكارٍ تغلب عليها الجِدة والحماس.

من أبرز المصورين الذين تتابع أعمالهم؛ Darren Jew و Alex Musterd؛ آملةً أن تسنح لها مزيدٌ من الفرص لنشر تقارير مصورة في مجلات عالمية تحتوي على معلومات يستفيد منها الغواصون والمتذوقون للجمال.

جُل مصوري البحار يتجهون نحو الكائنات النادرة؛ لكن ذلك ليس من أولويات علا، وفي ذلك لها وجهة نظر: “هدفي الأساسي إظهار أكبر كم من الكائنات العادية بصورةٍ فنية، وخلق تكوين رائع بين العناصر والإضاءة لأن منحها شخصيات فريدة وفق سلوكٍ معين يجعل صوري تأخذ نمطاً جديدا للتصوير تحت الماء”.

ولا شك أن عملها البحثي في جائزة مكتوم فتح لها نافذة على صور وأفكار كثيرة من كافة أنحاء العالم؛ وذلك بطبيعة الحال أثرى التغذية البصرية لديها وجعلها تتطلع للأفضل؛ كما أن احتكاكها المباشر بالمُحكمين الدوليين أغنى رصيدها الفوتوغرافي.

وقد يجهل بعضٌ أن الكائنات الصغيرة وسُميتّها تشكل خطراً أكبر بكثير على الغواص من الأسماك المفترسة؛ وهذا ما تؤكده في حديثها: في الحقيقة أن الأسماك الكبيرة لا تهاجمنا إلا إذا تعرضت للتهديد؛ وبالتالي لا تطمح إلى نكون وجبة طعام لها”.

شفاء القلب

كل “غَوصة” تغسل قلب علا بـــ إشراقة “الرضا”؛ لتنظفه من كل حزن؛ ما يمنحها قوة على توزيع الجمال والحب في الأرجاء؛ وتطلق العنان لضحكتها كلما تذكرت نفسها في البدايات حين كانت تتحدث بــ “الإشارة” مع من يرافقها تحت الماء ثم اعتادت الوضع فيما بعد؛ فهي لا تغوص وحدها؛ وإن كان هناك حالاتٍ استثنائية – ولا يُفضّل ذلك- يُسمح فيها للغواص أن يكون بمفرده.

وتعود من غوصات بــ “زعانف حُنين”؛ فيما قد تحمل الغنائم البصرية من أخرى؛ وفي كل الأحوال تستقبلها عائلتها بــ حمداً لله على السلامة، ثم تلوذ لحمامٍ دافئ، وبعدها تخلد للنوم.

Exit mobile version