كيف يسمم تغير المناخ طعامنا؟

اوراق: في مايو/ أيار الماضي، عندما كنت استكشف مدينة أوكساكا المكسيكية، عانيت من أعراض تسمم جعلتني أطوف بمراحيض المدينة – التي لا يخلو منها شارع في المكسيك – وأنا أتصبب عرقا. لكنني لم أدرك حينها أنني لم أكن مصابة بالتسمم الغذائي المعتاد، وإنما بنوع قد يحلو لي أن أطلق عليه “تسمم السمك المرعب“.

وبعد 12 ساعة من انتهاء أول نوبة غثيان، سرى الخدر من أصابع يداي وقدماي إلى المعصمين والساقين. شعرت كأني استيقظت للتو لكن أطرافي لا تزال نائمة. واستمر الخدر لفترة دون أن يتحسن. وبدا لي أن الحل الوحيد هو أن أخرج إلى الشارع وأتناول الآيس كريم.

وتبين لي في ما بعد أنني أصبت بتسمم غذائي غريب يدعى “سيغواتيرا”، جراء تناول أسماك ملوثة بنوع من السموم. وهذا التسمم يسبب أعراضا شديدة وموهنة لمدة 12 ساعة، وكثيرا ما تمتد آثارة على الجهاز العصبي لشهور، وأحيانا لسنوات. ولا يوجد له علاج بعد، كما لا يمكن تمييز السمك الذي يحمل هذا السم.

ومن المرجح أن يزداد انتشار السموم المسببة لهذا المرض في ظل ارتفاع درجات حرارة المحيطات الناتج عن تغير المناخ، وأن ترتفع معدلات الإصابة بالمرض كلما زاد حجم تصدير الأسماك من بلد لآخر حول العالم.

ورغم أنني لم أتناول طنا من الأسماك ذاك اليوم، إلا أنني أظن أن سبب الإصابة كان وجبة من السمك تناولتها في أفخم المطاعم في قلب المدينة. غير أنني لا يمكن أن أجزم بأن هذه الوجبة هي السبب من دون تحاليل معملية.

وبحكم عشقي للأطعمة الجديدة، التي أرى أنها أفضل مدخل للتعرف على الثقافة المحلية، قد أتناول في أسفاري أي أطعمة أصادفها للتعرف على المكان. ولا أنكر أنني لا أتوخى الحذر بطبيعتي عند تجربة الأطعمة الجديدة، باستثناء مرة واحدة حين تفاديت تناول شطيرة برغر رمادية اللون على متن إحدى الطائرات الآسيوية، جعلت زوجي يلازم الفراش لأيام.

وقد أصبت بتسمم غذائي طفيف مرة أو مرتين، لكن هذه المرة لم أتوقع أن أعاني من آثارها لشهور، وأتململ في فراشي بمدينة سياتل بالولايات المتحدة بسبب حالة الخدر المستمر في أصابعي.

وتقول الطبيبة ميندي ريشلين، الباحثة في معهد “وودز هول” لعلوم المحيطات والتي تدرس إزدهار الطحالب الضارة، إن تسمم “سيغواتيرا” مصدره أسماك ملوثة بسموم “السيغواتكسين”، التي تنتجها أنواع مدارية من السوطيات الدوارة (كائنات دقيقة وحيدة الخلايا) التي تعيش على الطحالب الدقيقة التي تنمو على الشعاب المرجانية الميتة.

وبعبارة أخرى، تشكل الشعاب المرجانية الميتة بيئة خصبة لنمو طعام الأسماك الملوث. ويصاب البشر بالتسمم جراء تناول الأسماك التي تأكل هذا الطعام. ولا تختلف أعراض تسمم سيغواتيرا في البداية عن أعراض التسمم المعتادة، ثم تتطور إلى خدر في أصابع القدمين واليدين يعاود الظهور بين الحين والآخر لشهور أو سنوات، وأحيانا يسبب خللا في الحواس يجعل المرء يشعر بأن البارد حار وأن الحار بارد، وهو ما يجعل المريض أحيانا يحتسي مشروبات فائقة السخونة دون أن يدري بمدى ارتفاع درجة حرارتها.

وأدى ارتفاع درجات حرارة المحيطات إلى تسليط الضوء على مخاطر الإصابة بتسمم سيغواتيرا، لكن هذه السموم كانت موجودة بالفعل منذ زمن بعيد. وفي القرن الرابع قبل الميلاد، يقال إن الإسكندر الأكبر منع جنوده من أكل الأسماك بسبب تفشي مرض له أعراض تشبه أعراض تسمم سيغواتيرا.

وفي القرن الثامن عشر، وصف أحد أفراد طاقم سفينة الكابتن توماس كوك أعراضا من المرجح أنها كانت أعراض تسمم سيغواتيرا، حين كانوا يستكشفون المحيط الهادئ. إذ ذكر أنه يشعر بخدر في الأصابع والساقين وأن أطرافه شبه مشلولة.

وذكرت هيئة “مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها” في الولايات المتحدة أن عدد حالات الإصابة بتسمم سيغواتيرا المسجلة سنويا على مستوى العالم بلغ 50,000 حالة. لكن أكثر الناس لا يدركون أنهم مصابون بالمرض إلا بعد فترة طويلة من تناول السمك الملوث بالسم.

ورغم أن سيغواتيرا ليس قاتلا، إلا أنه تسبب في عدد قليل من حالات الوفاة، كان أغلبها بسبب مضاعفات آثار السم على الجهاز العصبي والهضمي.

وتقول ريشلين إن أعراض سيغواتيرا غير واضحة، ومن الصعب تمييز الأسماك الحاملة للسم، وأنه لا توجد طريقة فعالة لفحص الأسماك للتحقق من وجود السميات. بالإضافة إلى هذا، لا يمكن القضاء على هذا السم بالطهو أو التجميد، ولا يوجد حتى الآن علاج للمرض أو ترياق لسم السيغواتكسين.

وفي اليوم اللاحق لإصابتي بالتسمم، شعرت بالخدر في يداي وقدماي لكن هذا لم يستمر لفترة طويلة. وبعد أسابيع قليلة عاودتني أعراض الخدر بشدة بعد تناول وجبة سوشي. وعندها قررت البحث عبر الإنترنت، كسائر مواليد جيل الألفية، وعثرت على معلومات عن المرض تتطابق تماما مع أعراضي، كان أبرزها التزامن بين الأعراض الهضمية والخدر، والآثار طويلة الأمد للمرض.

وتشير المعلومات عبر الإنترنت إلى أن بعض المأكولات، مثل سمك النهاش الأحمر، تثير الأعراض المرتبطة بالجهاز العصبي، كالخدر. وذكر البعض أيضا أن الفول السوداني والدجاج ولحم الخنزير والخمر والكافيين، وحتى التمرينات الرياضية، قد تحفز أعراض تسمم سيغواتيرا.

وتنتشر حالات الإصابة بتسمم سيغواتيرا في المناطق الاستوائية بالكاريبي والمحيطين الهندي والهادئ. وينتج المرض عن تناول أسماك الشعاب المرجانية، مثل النهاش الأحمر والهامور.

وتشير إحصاءات هيئة “مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها” إلى أن أغلب حالات التسمم وقعت في نطاق مدينة أوكاسكا، إلا أنه لم يُبلغ رسميا عن حالات إصابة في المدينة. لكن التشخيص لن يكون مجديا ما دام هذا المرض لا علاج له.

وتقول ريشلين إن ارتفاع حجم تصدير الأسماك حول العالم سيؤدي إلى نشر المرض في مناطق بعيدة عن البحار، مثل وسط غرب الولايات المتحدة. وتشير الأمم المتحدة إلى أن حجم صادرات الأسماك للاستهلاك البشري ارتفع بنسبة 514 في المئة، بين عامي 1976 و2017.

ويقول الطبيب مايك بارسون، الباحث في تسمم سيغواتيرا بجامعة فلوريدا غولف كوست، إن أحد المحامين أخبره أن موكليه أصيبوا بتسمم سيغواتيرا إثر تناول أسماك الباراكودا في مدينة نيويورك.

ويرى بارسونز أن المناطق التي كانت تنتشر فيها حالات الإصابة بالسيغواتيرا ستتغير بتغير المناخ، ويقول إن ارتفاع درجات حرارة المحيطات أدى إلى تغيير البيئات التي تصلح لنمو الطحالب التي تنتج السموم المسببة للسيغواتيرا. إذ تعيش الآن السوطيات الدوارة في الشمال الذي كان باردا في الماضي، بينما ارتفعت درجة حرارة المياه التي كانت تعيش فيها إلى حد يعوق قدرتها على النمو.

ويشير إلى أن السوطيات الدوارة المدارية وشبه المدارية في بعض المناطق مثل خليج المكسيك كانت تموت في الشتاء، لكنها الآن تعيش وتنمو طوال العالم.

وتركز أبحاث بارسونز أيضا على العلاقة بين انتشار سموم سيغواتكسين وبين الشعاب المرجانية التالفة. ويقول: “أتوقع أن يتسع نطاق تسمم سيغواتيرا كلما زادت وتيرة تدهور الشعاب المرجانية”.

وتعزو ريشلين انتشار هذا النوع من السميات على الشعاب المرجانية الميتة إلى أن السوطيات الدوارة تعيش على نوع من الطحالب التي تنمو على الشعاب المرجانية الميتة، وهذه الطحالب هي الطعام المفضل للكثير من أسماك الشعاب المرجانية. وفي العام الماضي فقد العالم 50 في المئة من الشعاب المرجانية التي يرجح العلماء أنها ماتت بسبب تغير المناخ.

ولتفادي الإصابة بتسمم سيغواتيرا، ينصح كل من ريشلين وبارسونز بالامتناع عن تناول بعض الأسماك عند السفر لبلدان أجنبية، على رأسها الباراكودا، التي تأكل أسماك الشعاب المرجانية الصغيرة الملوثة بالسم. وأوصت ريشلين أيضا بعدم تناول الأسماك المرجانية بشكل عام، مثل النهاش الأحمر والهامور.

ويقول بارسونز إن بعض المنتجعات في جزر فيرجن الأمريكية وغيرها تستورد الأسماك لأنها لا تثق في سلامة الأسماك المحلية.

وينبه بارسونز إلى أن الأسماك الأكبر حجما أكثر خطورة من الأصغر حجما، لأنها ربما تحمل كميات أكبر من السميات التي تنقل المرض. وينصح بالتعرف على نوع السمك الذي تتناوله والمنطقة التي اصطيد منها، وأنواع الأسماك التي تحمل هذه السموم في هذه المنطقة. وتنشر بعض الدول لافتات تحذيرية بأسماء الأسماك التي من المرجح أن تكون ملوثة بسموم سيغواتيرا ويفضل الامتناع عن تناولها لثلاث سنوات.

وبعد ثمانية أشهر، لا تزال الأعراض تعاودني بين الحين والآخر، لكنني لم أعد أخشى الإصابة بالشلل أو الموت كما كنت في السابق، بل صرت أتعجب من مدى جهلنا بأنواع الأطعمة التي نتناولها في أسفارنا. وحتى بعد أن اكتسبت معلومات جديدة عن سم السيغواتيرا، أعتقد أنني سأصاب بتسمم سيغوتيرا مرة أخرى، لأن الإصابة بهذا التسمم لا تكسبك مناعة منه بل تجعلك أكثر عرضة للإصابة به مرة أخرى..

Exit mobile version