في سهول السافانا في أفريقيا، يتجه أطول حيوان ثديي في العالم بهدوء نحو الانقراض، ليس بسبب فقدان موائله فقط، بل بسبب الشهية التي لا تشبع للجوائز التي تحول جلود تلك العمالقة اللطيفة إلى سجاد وذيولها إلى طارد للذباب.
لا يتسللون إليك. لا يهربون أو يفزعون. في الواقع، عندما تنعطف عند زاوية وتجد زرافة تسد الطريق، تميل الزرافة إلى الوقوف هناك، وتنظر إليك ببرود وخيلاء.
بأرجل تشبه العصي والرموش التي تنتمي إلى دروس فن المكياج، يبدو أن الزرافة جاءت من عصر آخر تماما، مثل بعض عروض ما قبل التاريخ الغريبة التي تعكس الأناقة والغرابة، ورغم ضخامتها، تكاد تطأ بصمت، أقدامها مُريحة وخطواتها مُتأنية، تطفو في الأدغال كمراقب صامت.
ووفقا للاستطلاعات، تُعدّ الزرافات أكثر الحيوانات تصويرا من قبل الزوار في حديقة كروغر في جنوب أفريقيا، متفوقة حتى على الأسد. ويبدو أن الحيوانات الأخرى تُدرك طبيعتها الهادئة، فالحمر الوحشية والحيوانات البرية غالبا ما ترعى برفقتها.
يبدو صيد مثل هذا المخلوق الرائع غريبا. فما الفائدة من اصطياد أحد أكثر الحيوانات البرية ودا في أفريقيا؟ لكن الأمر أنه لا يُقاوم بالنسبة للبعض من صائدي الجوائز والتجار الشرهين للكسب غير المشروع.
في يونيو/حزيران الماضي، نشرت مؤسسة الحياة البرية والحفاظ عليها أرقاما جديدة تكشف عن حقيقة صارخة، ففي عام 2023 وحده، تم شحن ما يقرب من 1800 “جائزة” زرافة حول العالم، مما أدى إلى تغذية سوق عالمية مستترة، باتت تشكل تهديدا خطيرا لبقاء الأنواع.
وفي هذا السياق، أصدر البروفيسور فريد بيركوفيتش، الخبير الرائد في مجال دراسة الزرافات والمدير التنفيذي السابق لمنظمة “أنقذوا الزرافات” تحذيرا صارخا، حيث يقول “لقد شهدنا انخفاضا بنسبة 40% في أعداد الزرافات خلال العقود الثلاثة الماضية، إذا استمر هذا المعدل من الانخفاض، فستنقرض الزرافات قريبا”.
انقراض صامت
لم يتبقَّ اليوم سوى أقل من 100 ألف زرافة في جميع أنحاء أفريقيا، وهي نسبة ضئيلة من إجمالي عدد الفيلة التي تُقدَّر بنحو 450 ألف فيل تتشارك البيئات نفسها. ولكن بينما يُثير اصطياد الفيلة من أجل العاج استنكارا عالميا، لا ينطبق الأمر على الزرافات، التي تُربَّى أحيانا في الأسر فقط لإطلاق النار عليها وشحنها كغنائم.
في أوائل القرن الـ20 كانت الزرافات تُصاد بلا هوادة في لوفيلد بجنوب أفريقيا. لم تكن تُقدّر من أجل لحمها أو عاجها، بل من أجل ذيولها، التي كانت تُستخدم لهش الذباب وصنع زينة احتفالية، وجلودها التي كانت تُصنع منها سياطا وعصيا (غالبا لضرب العبيد). أما عظامها فكانت تُسحق لاستخدامها سمادا.
وتعد أرقام الصيد الحالية صادمة. فوفقا لبيانات التجارة الدولية بأنواع الحيوانات والنباتات البرية المهددة بالانقراض (CITES)، استوردت الولايات المتحدة وحدها أكثر من ألف “جائزة” زرافة في عام 2023، وهو ما يمثل 60% من الإجمالي العالمي.
كما أن الدول الأوروبية منخرطة بقوة في هذه التجارة، حيث سُجلت واردات في المملكة المتحدة وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، من بين دول أخرى. وحتى في أماكن بعيدة كالصين والإمارات العربية المتحدة وكندا، تجد أجزاء الزرافة -جلودها وجماجمها وعظامها، بل أقدامها وذيولها- طريقها إلى المنازل كرمز للمكانة الاجتماعية.
بالنسبة لبيركوفيتش، الذي أمضى عقدين من الزمن في دراسة الزرافات في البرية، لا تقتصر المشكلة على الصيد غير القانوني فحسب، بل تشمل أيضا غسل الأموال الناتجة عن عمليات الصيد غير القانونية من خلال التجارة المشروعة في الجوائز. رسميا، تزعم صناعة صيد الجوائز أن حوالي 300 زرافة تُقتل بشكل قانوني كل عام.
وفي المقابل، تشير بيانات الحكومة الأميركية إلى أن ما يقارب 400 جائزة تدخل البلاد سنويا. ويوضح بيركوفيتش: “إذا كانت هذه الأرقام صحيحة، فهذا يعني أن 25% منها على الأقل تأتي من الزرافات التي تُقتل بشكل غير قانوني. إذ يُتيح صيد الجوائز فرصة للتجارة غير المشروعة”.
وتُظهر البيانات أن أعداد الزرافات تتزايد فقط في المتنزهات الوطنية والمحميات، وهي الأماكن التي يُحظر فيها صيد الجوائز، ففي منتزه شلالات مورشيسون الوطني بأوغندا، ارتفعت أعداد الزرافات من حوالي 200 إلى 1200 زرافة خلال العقدين الماضيين. وفي منتزه إيتوشا الوطني في ناميبيا ومنتزه كروغر، استقرت الأعداد ثم ازدادت.
إرث استعماري
تشير بعض الادعاءات إلى أن صيد الجوائز يُغذي الاقتصادات المحلية، ويُحسّن المجتمعات الريفية في أفريقيا، وهي مجرد ذريعة، فبينما يدرّ صيد الجوائز دخلا على التجار والصيادين، تشير دراسات مستقلة إلى أن 3% فقط من إيرادات صيد الجوائز تصل إلى الأسر التي تعيش بالقرب من امتيازات الصيد.
وفي هذا السياق، يقول بيركوفيتش لـ”موقع دايلي مافريك” “إذا بلغت إيرادات صيد الزرافات مليون دولار، فقد يذهب ما يصل إلى 99% منها إلى المسؤولين الحكوميين وملاك الأراضي، بينما يُترك الباقي للمجتمع المحلي”.
ويشير تقرير مؤسسة الحياة البرية والحفاظ عليها إلى أن المستفيدين الحقيقيين ليسوا القرويين الذين يُعانون من الفقر، بل الصيادون الأجانب الأثرياء، وغالبيتهم من الرجال البيض المسنين من الولايات المتحدة وأوروبا، والمشغلون الذين يُرشدونهم إلى آخر معقل للزرافات تحت شمس أفريقيا.
وتُظهر الصور المنشورة حتى على وسائل التواصل الاجتماعي هؤلاء الصيادين وهم يبتسمون بجانب جثث زرافات ضخمة مُمتدة، بعضها رُبّي في حظائر مُسيّجة فقط ليتم إطلاق النار عليه من مسافة قريبة.
ويقول بيركوفيتش: “عندما يقتل مواطن محلي فقير حيوانا للحصول على لحومه لإطعام عائلته، يُمكن أن يُزج به في السجن. لكن يُمكن لصياد ثري أن يدفع عشرات الآلاف من الدولارات لإطلاق النار على الحيوان نفسه، ويأخذ رأسه إلى وطنه. هذا هو الاستعمار الحقيقي”.
وتدعو منظمات الحفاظ على البيئة إلى الإمكانات الهائلة للسياحة البيئية لمقاومة الصيد الجائر، مشيرة إلى أن سياحة الحياة البرية تدر دخلا أكبر بكثير، وتخلق فرص عمل أكثر، وتمنح المجتمعات المحلية دافعا لحماية الحيوانات الحية. ومع ذلك، لا تزال فكرة أن بعض المناطق النائية “متاحة للصيادين فقط”.
تُقدّم السوابق التاريخية أيضا تذكيرا قاتما بما يحدث عندما يُبيد البشر الأنواع حتى النسيان. ويقول بيركوفيتش: “طائر الدودو، والكواغا، وبقرة البحر ستيلر، جميعها تُدفع إلى الانقراض بفعل البشر. لا يُمكننا تعويض الأنواع بعد انقراضها”.
من جهتها، تؤكد مؤسسة الحياة البرية والحفاظ عليها أن حظر استيراد جوائز الزرافات سيسد ثغرة قانونية بالغة الأهمية في عمليات الصيد غير المشروعة، وتشير إلى أن حياة الزرافات التي جابت أفريقيا لملايين السنين أثمن من أن تكون سجادا ناعما يطأه الأثرياء، أو مكنسة، أو رأسا معلقا على حائط.
المصدر: الجزيرة + وكالات