حَكواتية من بيت صفافا تطبخ في حاكورتها ما قد لا يعرفه الذوَّاقة

أوراق_

نظرة واحدة تعرف أنها ميرمية برّية بعلية؛ مستّدلة عليها من صغر حجم أوراقها وبهاتة اخضرارها، ولا تتردد حينها في شراء كمية كبيرة من فلاحة فرشت بسطتها عند باب العامود دون أن تناقشها في السعر، وفي كل محل تدخله تفضحها رائحة الميرمية؛ حتى عندما وقفت على الحاجز للتفتيش سألها الجندي الإسرائيلي بفضول عن هذه الرائحة؛ وكم رغبت أن تجيبه بنفس ما قاله ذلك الأسير للمحقق في رائعة محمود درويش “قلبي مليء بما ليس يَعْنيك. قلبي يفيض برائحة المَيرميّةِ”.  وفق مجلة أفاق

ماجدة صبحي حكواتية تخرج الضحكة من عيونها قبل شفاهها و”تبحبش” باستمرار في التاريخ والتراث، أخذت من النباتات طيبة القلب؛ ففي كل شهر ترسل طرداً لشاب في الغربة اسمه إبراهيم لم تلتقِ به من قبل وصار في مقام ابنها، ويشتمل الطرد على “قنينة زيت الزيتون ومرطبان من زيتونات الدار وقهوة ومربى خشخاش وروايات لإبراهيم نصر الله وميرمية”؛ تقول معلقة: ” كل شفّة شاي بالميرمية في الغربة تذكّر المغترب بالقول: “اوعى تنسى فلسطين”.

مُحومرة ثمك يا مقصوفة

قالها يوماً مريد البرغوثي “زيت الزيتون زهو الفلاحات في مساء السنة وغرور الجرار” ولكن هذه الفلاحة لديها الكثير الكثير مما تزهو به في كل أوقات السنة؛ كيف لا وهي امرأة يبوسية – وفقاً لتعريف تحبه -تعيش في قرية بيت صفافا- تقع على مسافة 6 كم جنوب شرق القدس وشمال بيت لحم- ولديها حاكورة تجعلك تشتهي زيارتها ذات مساء لتأكل من يديها أطباقا مفعمة بالنكهات بفضل جنّة الأرض.

تستهل حديثها مع “مجلة آفاق البيئة والتنمية” بروحٍ يغمرها الرضا والمرح: “لم تكد تخلو أي حاكورة فلسطيني من أشجار التين والتوت والليمون والرمان، كانت حاكورتنا مُحاطة من جهاتها الأربع بأشجار مثمرة عملاقة وارفة سخية عتيقة تتجذر في أرض مباركة؛ يزداد عطاؤها كلما ازدادت سنين عمرها مواصلة إغداقها علينا كأنها زرعت حديثا، كنا ننتظر موسم قطاف كل واحدة منهن “لنتعربش” عليها ونتذوق مما جادت به، أما بقية الحاكورة فقد اهتمت أمي بزراعة كل شبر فيها من قرنبيط وخيار وبندورة وبصل وخس وبقدونس وبازيلاء وفول، تقسّم الأرض كما المهندس فتحولها لأحواض وأثلام وفقاً للمزروع، ثم ننتظر نضجها لتبدأ بعدها عملية الطبيخ والنفيخ”.

تتدفق الذكريات إليها فتسردها بكل حب؛ ومن بينها مناداتها لصويحباتها لقطف البازيلاء معاً والاستمتاع بأكلها “وعلى قولة المثل من الفرن للجرن” حسب تعبيرها، مضيفة: “وحين تأتي أمي لتطهو لنا يخني البازيلاء اللذيذ بالبندورة تكتشف أننا سبقناها، وما تبقى سوى القشور والأوراق لتكتشف أن تعبها راح في أفواه بنات الحارة”.

قلب ماجدة يضحك “من صماصيمه” كلما لمحت قشرة ثمرة الجوز الخضراء لتعود بها إلى زمن جميل: “كانت تلك القشرة أول مبيّض للأسنان وأول أحمر شفاه طبيعي عرفناه في الطفولة، لطالما انتظرت موسم الخريف لأجل هذا؛ وحين كان يلومنا الكبار على احمرار شفاهنا بقولهم “مُحومرة ثمك يا مقصوفة الرقبة!”، فيكون الجواب جاهزاً بهذه الحُجة: “يابا مش قصدي والله؛ كنت أبيّض في أسناني”.

وعن طبيعة الأرض الفلسطينية الزاخرة بالنباتات والأزهار التي تزّين في فصل الشتاء والربيع لتبدو كلوحة فنية من صنع الخالق، تقول بنت القدس “في أرضنا نجد الأعشاب العلاجية مثل البابونج واليانسون والشومر وغيرها، ونباتات نقطفها لنأكلها مباشرة خلال تجوالنا في الحقول والبراري كــ “السعيسعة والجولثان والدريهمة، أو نضيف عليها لبن رائب دون طهي كالحويرنة، وهناك أعشاب علينا طهيها وربما معالجتها للتخلص من مذاقات غير مستساغة كورق اللوف والقُرّيص”.

تؤكد أن تنوع المحاصيل أتاح مساحة واسعة للإبداع في الأطباق الصحية الخضراء الغنية بالفوائد الصحية كالخبيزة والعلت (الهندباء) والعكوب وورق الزعمطوط واللفيتة؛ ناهيك عن الزعتر والحميضة التي تحضّر منها المعجنات والفطائر؛ معقبّة بخفة ظلها المعهودة: “أظن أن النباتيين والذين يتبعون حمية صحية أكثر من يفرحون بموسم الربيع، أما عشاق اللحوم فقد ينزعجون بعض الشيء”.

ويُسجل لماجدة اهتمامها بما يفعله الفلاحون حول العالم، فقد سافرت من قبل إلى القارة السوداء ولاحظت أن الأفارقة بحرقون مساحات شاسعة من الأراضي بأشجارها ونباتاتها؛ وبطبيعة الحال تساءلت عن السبب فتبين لها أن ذلك بغرض تجديد الأرض فيما تتحول الأشجار المحروقة إلى سماد للمزروعات الجديدة.

هذي حكايتي حكيتها وبعبكن حطيتها

وضعت ماجدة بصمتها بالمشاركة في واحدة من الطاولات التفاعلية التي نظمتها مجموعة “استضافات فلسطين” بالتعاون مع المتحف الفلسطيني في إطار مبادرة أثْرتها بمعلومات جديدة عن المطبخ الفلسطيني في مدن الوطن كنابلس وغزة ورام الله، وتضيف: “سررت بمشاركتي بطبق مقدسي اعتز به “طبق الجريشة الصفافي” لمكانته في قرى القدس وحضرّت أيضاً “الشراك بالزعتر” وحلوى الملاتيت وتتكون من القمح وزيت الزيتون والسكر؛ ومُربى العنب وخبز الكراديش بالبصل وبعض من أكلات الربيع النباتية”.

وتجد متعة روحية لا تضاهيها متعة في التجوال بين أرجاء الحقول والبراري، محاولة وصف ما تشعر به: ” تعيدني الطبيعة إلى جذوري فأنا وأنتم أبناء هذه الأرض التي خُلقنا منها، حين أسير في مناكبها اتفكر في آيات الله وإبداعه لامتلئ بشعور الزاهد المتوكل على خالقنا القادر على أن يدبر لنا كل شيء، وهكذا أتفاعل مع العالم الأخضر بعيداً عن مصادر التلوث الأسمنتية التي شوّهت المشهد الريفي، بالمختصر التجوال يصالحني مع نفسي ومع كل من حولي لأعود للبيت مشحونة بالحب والجمال”.

وفي الوقت نفسه تبدي أسفها إزاء تراجع هذا النوع من الجولات؛ قائلة بنبرة ألم: “حرمنا الاحتلال من لحظات جميلة لها أجواء عائلية خاصة، في الماضي، وقبل أن تبدأ حملاتهم المسعورة ضد الشجر والحجر والبشر؛ كانت الأسر برجالها ونسائها وأطفالها ينضمون لتجوالات ربيعية دافئة يأخذون معهم زوادة تكتمل بما تجود به الطبيعة، نضحك ونلعب الاستغماية في المُغر والكهوف القديمة، اليوم يُحرم أولادنا والأجيال القادمة من الاستمتاع بوقت يساوي كنوز الدنيا، وبتنا نرى ما يحرموننا منه يُباع تحت مسميات العلاج المكمل بماركات إسرائيلية وغربية”.

وتُعد ماجدة صبحي قارئة نهمة، فمن الكتب التي تركت أثرا عميقا بها؛ كتاب (لفتة يا أصيلة) للدكتورة عايدة النجار تناولت فيه قرية لفتة المقدسية المهجرة، وتحدثت عن أكلات زمان التي اندثرت لأسباب عدة منها الشتات الفلسطيني وسياسات الاحتلال وعمل المرأة.

ومن الأكلات التي استحوذت على اهتمامها في ذلك الكتاب ولم تُعد تُطهى، (جَغَلْ مَغَلْ ) ذات الإسم الغريب المضحك وهي يخنة تتكون من كرشة العجل التي تفرم وتسلق ومن ثم تقلى مع بصل وبندورة، وتغمس كأي يخنة خضار؛ تستحضر ذلك المشهد العزيز على قلبها:  “أعادني هذا الطبق إلى طفولتي حين كانت والدتي تحضرّه بمهارة عالية ونلتّف حول طبلية الطعام لتهجم الأيادي وتغمس الجغل مغل من نفس الصينية، وعدت أبنائي أن أطهوها لهم وأنا موقنة أنها ستحظى على إعجابهم”.

ومما يلفت الانتباه أن مطبخها ما زال يحتفظ بهوية أصيلة، فلديها قدورا كبيرة تعرف ب (دِسْتْ) وتُخصص للطهي للأعراس وتكفي كميتها لأكثر من ألف شخص، وبحوزتها الصواني الكبيرة (سدور)، وأدوات فخارية كصحن الفخار الذي يُمرس فيه الجميد؛ في حين أن المظهر العام لبيتها يحافظ على بعض الملامح التراثية؛ ففي كل موسم لقطاف الثوم يأتيها زوجها  بــ “بوكسة ثومة خضرا” حتى تعلّقها على “برندة الدار” من قبيل التمسك بموروثات الأجداد.

سألناها عن دورها الذي تمارسه من خلال الحكاية، فقالت: “يتوجب علينا نقل تراثنا من جيل إلى جيل حتى لا يبقى طي الكتب كمتحف يزوره السواح مرة كل عام، وصلتنا هدية عظيمة فيها الحكاية والمثل والأهزوجة وصرنا نخشى ضياعها ونسيانها مع هذه الثورات التقنية، ذلك أن “جيل النت” تعودّ على الهواتف الذكية، ونحن ينبغي أن تكون لنا وقفة بجذبهم إلى تراثنا وتعويضهم عن عالمهم الغارقين فيه، وهذا ما حاولت فعله أن أجعل الطفل أو الشاب يكتشف أن الحكاية إذا ما رُويت له بإحساس صادق وبدون حواجز الشاشات سيكون لها متعة خاصة، وكم يفرحني أن أرى في عيونهم أثناء القصّ انفعالات مختلطة مثل الترقب والخوف، مما يزيدني حماساً وشجاعة في ارتجال بعض الإضافات للحكاية”.

هذه المرأة تدخل حياة اليف في كل تفصيلة من حياتها؛ حتى حين تغني لحفيدتها تختار مقطع الاستسقاء من قصة مغني المطر فيترنم صوتها بعذوبة:

يا ربي زخة زخة  صار لها شهرين ونص ما بخّت ولا بخّة

يا ربي نقطة نقطة … تنروي حلق القطة

يا ربي رشة رشة… تنسقي حلق الجحشة

وتختم حكاياتها للأطفال والشباب في كل لقاء تشارك به؛ بنفس ما تختم به هذا الحوار اللطيف (وهذي حكايتي يا هديل حكيتها وبعبكّن حطيتها.. احكوها وانشروها ولا تخبوها”.

 

Exit mobile version