مع تزايد حرائق الغابات الكارثية حول العالم يطرح السؤال عن مدى تعافي النظم البيئية المتضررة والوقت اللازم لذلك، وحيث تشير الأدلة التاريخية إلى أن النظم البيئية قادرة على التجدد بعد الحرائق، ولكن مع تزايد شدة هذه الحرائق ونطاقها والتغيرات المناخية، سيحتاج البشر أيضا إلى تكثيف جهودهم لدعم هذه العملية.
وعند مشاهدة الحرائق المدمرة في غابات اللاذقية السورية أو تركيا أو جنوب كاليفورنيا سابقا، يتساءل الكثيرون عما إذا كانت النظم البيئية المعقدة والمتنوعة قادرة على التعافي من هذا الدمار. الإجابة المختصرة هي نعم. ومع ذلك، فإن العملية ليست بهذه البساطة، ويزيدها تغير المناخ تعقيدا.
يشير علماء الطبيعة إلى أنه لا حاجة إلى تدخل بشري لإعادة إحياء الغابات المحترقة، خصوصا أن النظام البيئي للغابات تطور عبر ملايين السنين وأصبح يعتمد على حرائق الغابات الدورية لإحلال التوازن البيئي بشكل طبيعي.
كما أظهرت دراسات الحرائق التاريخية العمليات التي تمر بها النظم البيئية بعد الحرائق، وكيف يمكن أن تُفيد التنوع البيولوجي وتعزز مرونة النظم البيئية. ومؤخرا، اتضح أن تغير مناخنا السريع يُؤثر على مراحل التعافي، وأن البشر إما أن يُسهموا في هذه العملية أو يُضرّوا بها.
وتعد النار جانبا طبيعيا من دورات النظام البيئي، وخاصة الغابات والمراعي، ولذلك تطورت لتعتمد على النار لخلق التنوع. وبعد الحريق، تظهر رقعة أرض مفتوحة تبدو للعين البشرية وكأنها ندبة عليها.
ومع ذلك، فإن ذلك يعد فرصة للعديد من الأنواع، حيث لا تنافس على الموارد ولا وجود لمفترسات. ويفتح انعدام المنافسة بعد الحريق آفاقا جديدة في النظام البيئي لمزيد من التنوع، وهذا يؤدي إلى المرونة، أو قدرة النظام البيئي على تحمل التغيير. وتُعرف هذه البداية الجديدة باسم “التعاقب البيئي”.
ويشير تقرير لموقع “إيرث دوت أورغ” (Earth.org) إلى أنه في عام 1988 احترق أكثر من 30% من متنزه يلوستون الوطني بالولايات المتحدة نتيجة حرائق استمرت لأسابيع.
واليوم، قد لا يدرك زوار يلوستون أن حريقا قد وقع، رغم أن بعض مناطق المتنزه لا تزال في مراحلها الأولى من التعافي. وهذا دليل على قدرة الطبيعة على التعافي من مثل هذه الكوارث.
بشكل عام، تعتمد عملية التعافي على حالة الأرض بعد الحريق وشدته ومدى انتشاره، حيث تتجدد الغابات مع نمو شتلات جديدة من البذور التي ربما نجت من الحريق أو من خلال انتشار بذور جديدة من مناطق أخرى.
وقد تستغرق عملية الانتقال من الشتلات إلى أشجار ناضجة عدة عقود، وقد تختلف المدة الزمنية حسب نوع الغابة والظروف البيئية، وتشير بعض الدراسات إلى أن مدة 7 سنوات من الحريق هي الفترة التي يعتبرها العلماء حاسمة لتعافي النظم البيئية بشكل أولي.
ففي المراحل الأولى من تعافي النظام البيئي، تستوطن الكائنات الدقيقة القوية والنباتات المرنة -والتي تُعرف غالبا باسم “الأنواع الرائدة”- الأراضي المحترقة. وللوصول إلى التربة، عادة ما تحمل الرياح هذه الكائنات والبذور والأبواغ.
ومع ذلك، كلما اتسعت المساحة المحترقة، زادت المسافة التي يجب أن تصلها هذه الكائنات: وهو عامل رئيسي يُحدد الوقت الذي يستغرقه النظام البيئي للتعافي بعد الحريق.
وتستخدم هذه المستعمرات الأولية العناصر الغذائية في التربة، وتُكون تربة سطحية أغنى، تسمح بعد فترة من الزمن بازدهار المزيد من النباتات بعد الكارثة. وغالبا ما تكون الشجيرات والشتلات المرنة التي تشكّل الطبقة السفلى من الغابة هي العلامة الأبرز على التعافي.
وتتطلب هذه الأنواع سريعة النمو عادة الكثير من ضوء الشمس، وتزدهر في المناطق التي لا توجد فيها أشجار طويلة تظلّلها. وبمجرد أن تملأ الأشجار الأكبر المنطقة، تميل إلى احتلال حواف الغابات أو الحقول.
وغالبا لا تعود الحيوانات إلا بعد عودة النباتات، ولا تكون الفرائس الصغيرة هي أول من يعود إلى المنطقة. فوفرة الموائل وقلة الحيوانات المفترسة تجذب الثدييات الصغيرة مثل الفئران والحشرات والطيور. وبمجرد ازدهار الفرائس، تتبعها الحيوانات المفترسة.
أهمية التنوع البيولوجي
ورغم أن جميع النظم البيئية في تغير مستمر، إلا أن مؤشر وصول النظام البيئي إلى مرحلة “الصحة” هو التنوع البيولوجي. ويشير ارتفاع أعداد الأنواع التي تشغل موائل (أو بيئات) مختلفة في النظام البيئي إلى تعافيه بعد الحريق. إلا أن العملية برمتها قد تستغرق وقتا طويلا.
وبعد الحرائق، تستغرق النظم البيئية عقودا لإعادة إحياء التربة واستعادة تنوع الأنواع. ويمكن للبشر المساعدة في هذه العملية من خلال إدخال الأنواع ذات الصلة إلى المنطقة من خلال جهود الزراعة المجتمعية وتوزيع الأنواع الرائدة المفيدة. وهذا يعزز التنوع ويُسرّع العملية الطبيعية.
وغالبا لا تعود الحيوانات إلا بعد عودة النباتات، وعادة ما تكون الفرائس الصغيرة هي أول من يعود إلى المنطقة. فوفرة الموائل وقلة الحيوانات المفترسة تجذب الثدييات الصغيرة مثل الفئران والحشرات والطيور. وبمجرد ازدهار الفرائس، تتبعها الحيوانات المفترسة.
وبعد حرائق الغابات، تصبح عملية إعادة غراسة واستعادة الأنظمة البيئية المتضررة أمرا حيويا، فغراسة الأشجار الجديدة ليست مجرد عمل بيئي،بل تعد خطوة أساسية نحو تعزيز مرونة الأراضي في مواجهة الحرائق المستقبلية. كما تساهم إعادة التشجير في استعادة التنوع البيولوجي وتحسين جودة الهواء والمياه.
ومع ارتفاع درجات الحرارة العالمية وتفاقم ظروف الجفاف، تتزايد وتيرة حرائق الغابات وشدتها وخطورته وصعوبة السيطرة عليها، وقبل نحو أسبوع اندلعت حرائق مدمرة في عدة مناطق وعرة ومتباعدة في جبال اللاذقية السورية الساحلية.
ودمرت الحرائق ما لا يقل عن 15 ألف هكتار من الغابات والأراضي الزراعية، في واحدة من أكبر موجات الحرائق التي يشهدها الساحل السوري منذ سنوات.
كما اجتاحت الحرائق، قبل ذلك محافظة إزمير في غرب تركيا نتيجة لارتفاع درجات الحرارة والجفاف، في تزايد مستمر للحرائق في منطقة البحر الأبيض المتوسط خصوصا.
وتشير الدراسات إلى أن تغير المناخ يلعب دورا غير مباشر لكنه متنام في تفاقم اندلاع الحرائق. فارتفاع درجات الحرارة، وتراجع رطوبة التربة يسهمان في وقوع الحرائق وجعل بيئات الغابات أكثر هشاشة، ويقللان من فرص نمو نباتات جديدة بعد الحريق.
وبحسب دراسة منشورة في مجلة “علم البيئة الطبيعية والتطور”، فإن ما لا يقل عن ثلثي الغابات المتضررة من الحرائق لم تنجح في استعادة كثافتها النباتية وإنتاجيتها خلال فترة 7 سنوات من الحريق.
المصدر: الجزيرة + وكالات