أوراق – تعجبني كثيرا قصة مقهى سيسليا في مدينة صقلية الإيطالية؛ فهو أحد معالمها العريقة على مدار أربعة أجيال.
انبهرتُ حقاً بطريقة تفكير “كورادو اسينزا” صاحب المقهى؛ الذي نشأ بين مزارع جزيرة صقلية، وصار بارعاً في تحضير ألذّ أنواع البوظة والــ “غرانيتا باللوز” التي تنشّط حاسة التذوق؛ هذا الرجل يستخدم مكونات الطبيعة بشكل مذهل ويحولّها إلى طعام. وفق مجلة افاق.
ومما بقي عالقاً في عقلي من حديث كورادو أن الهواء النقي والسماء الزرقاء واللون الأصفر الداكن للأعشاب الجافة؛ والضوء والأصوات والألوان؛ كل ذلك يلهمه؛ ويأتي جمال حكايته من اعتزازه بجذوره ومحافظته على أرضه التي تنتج أفضل مكونات في العالم؛ لا سيما اللوز الذي ينتج منه “الغرانيتا” إذ أن تناول الإيطاليين لها يعد من التقاليد الراسخة.
يذهب دائما إلى البساتين ويقطف الثمار بنفسه ويساعد في حلب الشِياه؛ وينتقي مزارعين يدركون أهمية جودة المكونات في عملهم؛ حتى أنه يعتمد على أفضل راع ينتج الجبن ويتميز بإنتاج ريكوتا مثالية – أحد منتجات الألبان – ؛ فــ البوظة التي يعدّها كورادو من الريكوتا لم تكن لتخرج بهذه الروعة لولا ذلك الراعي.
بقي صاحب المقهى مستاءً من مراكز التسوق التي حلّت مكان الأراضي الخضراء؛ فهي من وجهة نظره مدناً مزيفة تبيع الطعام المحفوظ؛ إلا أنه انتقل من حالة الامتعاض إلى مرحلة الفعل ببحثه المستميت عن منتجات ذات جودة منشؤها الأرض؛ ولا أنسى قوله “أريد أن أجعل العَالم يفهم الفرق”.
وعندما تعرّض اللوز الصقلي للتهديد فإن “غرانيتا اللوز” صارت عرضة للاندثار بطبيعة الحال؛ وحينها وضع صاحب اليد الماهرة في تحضير المعجنات التقليدية خطة لحماية هذا الإرث الثقافي أي اللوز، ونجح في إقناع المزارعين بالدفاع عنه؛ وانطلق في إبداع وصفات جديدة لإبراز اللوز.
كان يجب أن أبدأ بهذه الحكاية التي أحبها؛ هكذا هي خيرات الأرض حين نعاملها بتقدير وحَفاوة فإنها ستبِسط يدها لتقدّم غِنى المذاق؛ وإن كانت النماذج التي تسير على هذا النهج قليلة فإن مجرد الاقتراب من عَالمها أمر لطيف؛ هذا البروفايل يحاول مقاربة تجربة مقهى سيسليا مع مطبخ هيفاء الفلسطينية.
العائلة تعمل وتأكل
تستهل الطاهية هيفاء زيتون والتي تنحدر من مدينة الخليل حديثها مع “آفاق البيئة والتنمية” بالقول: “في طفولتي عشت في بيت صغير تحيط به “حاكورة” من جميع الجهات؛ وكلما نظرتُ من الشباك تنفسّت الهواء العليل وانشرحَ صدري بمنظر الخضراوات المزروعة في فصل الشتاء؛ كان أبي مولعاً بزراعة الفول الاخضر والسبانخ والخس والبقدونس؛ وكانت فرحتنا لا تسعها الدنيا حين نلهو بين الأشجار ونلتقط الفول من أشتاله؛ ولدي صورة تعود إلى ذلك الزمن احتفظ بها في “ألبوم قلبي”.
تلك المحاصيل لطالما طبخت منها عائلة هيفاء ألذ الأكلات لا سيما في فصل الربيع مثل “يخني الفول” ولبنية الفول” وهي أطباق شعبية خليلية؛ بكل متعة تروي التفاصيل: “كانت عائلتي تحب في النهارات المشمسة تناول الأرز والفول ويُطلق عليها “ربيعية الفول” أو مجدرة فول وإلى جانبها اللبن المخيض؛ وفي آخر الموسم يكبر حجم الفول وحينها يسارع أبي إلى تحضير صينية شهية من حبات الفول الأخضر والذي يشبه “حاملة الحمص”؛ ونُهدي منه للأقارب والجيران؛ ولا يمكن أن أنسى أقراص السبانخ؛ والتبولة التي نضع فيها البقدونس الطازج”.
“ماذا عن خيرات الصيف أيتها السيدة؟”.. تتابع حديثها بابتسامة فيها نعومة المطر: “يبدأ استمتاعنا بكروم العنب وأكلاته اللذيذة في الصيف مثل ورق العنب “الدوالي”، وصينية لحمة على ورقة مع شرائح البندورة الطازجة؛ موسم العنب الجميل يملؤني بالفرح؛ ليس فقط عندما تتساقط حبات العنب الطازج من العنقود داخل فمي؛ بل حين يرسم لوحة لطيفة يجتمع فيها الإخوة للعمل جنباً إلى جنب مع الوالدين لإعداد حلوى الخبيصة اللذيذة؛ ناهيك عن الدبس والزبيب والخل وكلها أصناف يتم الاحتفاظ بها في خزانة مؤنة الشتاء”.
مضت طفولة هيفاء ولكن بقية حياتها سارت على المنوال نفسه؛ تضيف في هذا السياق: “كبرنا وكبر حب الأرض معنا وغرستُ مع زوجي في أبنائنا قيمة حب الأرض؛ وأورثناهم “حسّ المزارع” وأدركوا يوماً بعد آخر كيف تنبت الخضروات والفواكه بشتى أنواعها؛ كان بستاننا “روح الدار” زرعنا أشجاراً مثل البرقوق والتفاح والمشمش والسفرجل واللوز والخوخ والليمون والعنب”.
تعلمت المرأة أكثر مما نظن من بستانها الصغير؛ لم يقتصر الأمر على أكل الثمار؛ بل اهتمت ضيفتنا بصنع المربيات بكل أنواعها والعصائر المرّكزة والطازجة أيضا؛ إذ تتجمع عائلتها لقطف ثمار الفاكهة ومن ثم يتطوع كل أفرادها للمساعدة في تحضير المربى والعصير؛ صحيح أنهم يعيشون يوم عمل طويل وشاق لكنه يحلو بلمة العائلة لا سيما حين ينضم لهم الجيران لتتجلى روح التعاون في أبهى صورها؛ تصف المشهد بالقول: “بعد الانتهاء من العمل نتناول طعام الغذاء تحت ظلال الأشجار ونشرب من عصيرنا، يا لها من متعة وراحة بال وتصدق مقولة “أعط الأرض بتعطيك”.
ويستعين مطبخها بما يجود به البستان من اعشاب وخضراوات من بصل أخضر وسلق وبقدونس ونعنع وروزماري وكزبرة خضراء وزعتر أخضر ونبتة لويزا العطرية التي تضاف إلى الشاي أو يعدّ منها شراب ساخن؛ ويمكن إضافتها عند سلق اللحمة والدجاج.
تتنقل حاليا في الإقامة ما بين مدينتي القدس ورام الله؛ ولا تتخيل لوهلة أن تسكن في شقة؛ لأنه حسب ما تقول ليس من قبيل المبالغة أن البستان يمنحها وقود الاستمرار والاستمتاع بكل لحظة تراقب فيها ما نبت كل يوم؛ مضيفة: “صحيح أن الحدائق ليست في متناول الجميع ولكن تستطيع العائلات التمتع بالطبيعة من خلال الذهاب إلى الأحراش والمزارع أو مساعدة الأقارب خاصة في موسم الزيتون؛ عن نفسي لا أفوّت مع عائلتي أي موسم دون الذهاب إلى بيت جد أولادي في القدس ونشمرّ عن سواعدنا لقطف الزيتون وما أحلاها من لمّة”.
لا تُجافوا الزرع
هيفاء زيتون تعمل بجِد على توثيق الأكلات الشعبية للأجيال القادمة من خلال مدونتها “في المطبخ مع هيفا”؛ في حين تبدي إشفاقها على الجيل الجديد لأن الكثير من الشباب والشابات لا يعرفون عن هذه الأكلات وكيفية تحضيرها، في حين أن العديد منها سهلة وسريعة التحضير؛ حسب تجربتها، آملةً من كل عائلة فلسطينية أن تسهم في توعية أبنائها؛ وأن يعتني المهتمون بالرواية الشفوية والمكتوبة للقيام بهذه المهمة.
تحزن كثيراً لأجل من يلتهون بوسائل التواصل الاجتماعي والألعاب الالكترونية فلا يجدون لأنفسهم وقتا للاستمتاع بالحياة؛ وتضع يدها على مربط الفرس: “حين نجافي الأرض تكون النتيجة أننا سنبتعد من الأكلات الشعبية ونستبدلها بوجبات المطاعم السريعة؛ لماذا نفعل ذلك بصحتنا والأرض أمامنا خيرّة تنتج لنا عناصر غذائية غنية لا حصر لها!؛ وليخبركم من جرّب هذا النمط وأدرك الفرق في الطعم والفائدة على حد سواء”.
ويبدو أن عشق الأرض يجمع بين الناس حتى لو اختلفت جنسياتهم ودياناتهم؛ تتطرق إلى ذلك بذكر هذا الموقف: “في الصيف الماضي سافرت إلى إيطاليا وكان جميلا أن التقي بعائلة هناك؛ كانت النقطة المشتركة بيننا حبنا للأرض والزراعة؛ وأهدتني يومها مُربى من صنع أيادي أفرادها ومما نبتت به حديقتهم”.
ومن الفعاليات التي تعتز بالمشاركة بها في العام الماضي “وليمة القمح”وهي أحد الطاولات التفاعلية التي نظمتها مجموعة استضافات فلسطين بالتعاون مع المتحف الفلسطيني، حيث أقيمت لإحياء الأطعمة التراثية التي تتكون من القمح بالدرجة الأولى؛ فــ الإسم “وليمة القمح” مشتق من عيد البربارة؛ والبربارة تُعد من القمح المجروش.
حكي عن هذه الفعالية بالقول: “عملت بشكل متواصل لثلاثة أيام من بيتي؛ طبخت المفتول الذي تشتهر به فلسطين خاصة قرى الشمال؛، وقدمتُ “لبنية البرغل” التي تُعرف بها الخليل مستعينة بخزانة المونة، والرشتا والعدس التي تُطهى بطرق تختلف بين منطقة وأخرى، وحضرّت كبة اليقطين حشوتها بالسبانخ والحمص المسلوق والجوز وأضفت الرمان وكانت هذه المرة الأولى التي أجرب هذه الوصفة والحمد لله رأينا نِتاجاً طيباً يدعو للفخر بهذه المُكونات المدهشة التي تحتضنها الأرض، ومن اللطيف تقديمنا حلوى البربارة، في مُزامنة قريبة من عيد البربارة لأخوتنا المسيحيين؛ وحضَرَ على المائدة مشروب الجلاب البارد الذي يُعد من الدبس ونقيع الزبيب أي أن العنب فيه صاحب فضل؛ إذن بيت القصيد أن الحضور استمتعوا بالطعام وبسماع القصص فلكل طبق حكاية”.