لا يستغنى أكثر من نصف سكان العالم عن تناول الأرز يوميا. وزاد اعتماد العالم على الأرز كونه من المحاصيل التي تُزرع في جميع قارات العالم، لكن المشكلة أن الأرز يعد من أكثر المحاصيل استهلاكا للمياه، إذ يزرع عادة في حقول مغمورة بالمياه.
وفي ظل تغير المناخ، وزيادة تواتر وحدة الظواهر الجوية المتطرفة، كالجفاف والفيضانات، أصبح تحقيق الأمن الغذائي العالمي على المدى الطويل مرهونا بإنتاج محاصيل رئيسية تتحمل نقص المياه من آن لآخر، وبكفاءة استخدام المياه في جميع المجالات الزراعية.
وهذا التحدي ليس هينا، إذ تستأثر الزراعة في الوقت الراهن بنحو 70 في المئة من مجمل استهلاك المياه العذبة عالميا. وهذه النسبة ستزيد مستقبلا، فمن المتوقع أن يصل عدد سكان العالم إلى 10 مليارات في عام 2050.
وكلما ارتفعت معدلات الدخل، زاد الاعتماد على البروتين الحيواني، الذي يستهلك إنتاجه كميات أكبر من المياه.
واستجابة لهذه التحديات، يعكف العلماء على استكشاف طرق جديدة لإنتاج نفس الكميات من المحاصيل واستهلاك كميات أقل من المياه، منها استنباط أصناف جديدة من الأرز تقاوم الجفاف، واتخاذ القرارات بناء على بيانات من الأقمار الصناعية حول نقص المياه، حتى يصبح نظام الغذاء العالمي أكثر قدرة على التصدي لتحديات التقلبات المناخية.
تلبية احتياجات الصين من الأرز
وألقى نقص المياه بظلاله على مزارعي الأرز في الصين. وتقول هايان زيونغ، باحثة في علوم النباتات بجامعة كامبريدج، إن مناطق عديدة من الصين أصبحت تعاني من نقص المياه، بسبب الزيادة السكانية والزحف العمراني واستخدام المياه لأغراض صناعية، فضلا عن أن توزيع المياه في الصين غير متكافئ جغرافيا، إذ يندر سقوط الأمطار شمالا، وتكثر موجات الجفاف جنوبا.
وتستهلك زراعة الأرز في الصين كميات هائلة من المياه. إذ يتطلب إنتاج كيلوغرام واحد من الأرز نحو 4,000 لتر من المياه. ويستهلك ري الأرز نحو 70 في المئة من إجمالي المياه المستخدمة للأغراض الزراعية.
واستجابة لهذه التحديات، اقترح بعض العلماء استنباط أصناف من الأرز تستهلك كميات أقل من المياه. ويحتفظ بنك جينات الأرز في الفلبين، لهذا الغرض، بآلاف الأصناف من الأرز.
وتتطلع زيونغ وزملاؤها إلى تطوير نوع من الأزر يقاوم الجفاف باستخدام تقنيات التعديل الجيني وأساليب التهجين التقليدية. وعثر الفريق على جين في الأرز الذي يزرع في المرتفعات، يعرف باسم “أو إس إل جي3″، ويرتبط هذا الجين بطول حبة الأرز وقدرته على تحمل الجفاف.
وعلى عكس التربة المشبعة بالمياه بحقول الأزر المغمورة، فإن تربة المناطق المرتفعة جافة ويصعب فيها زراعة الأرز. ولهذا فإن الأرز الذي يزرع في المرتفعات أقل جودة من نظيره المزورع في الأراضي المغمورة. وقد يساهم إدخال هذا الجين المرتبط بمقاومة الجفاف في المرتفعات إلى الأرز الأكثر انتشارا المزروع في الأراضي المغمورة، في إنتاج أفضل أنواع الأرز.
وثمة نوع آخر من الأزر الهجين يطلق عليه “الأرز الأخضر الفائق”، الذي طور لمقاومة التحديات المناخية.
إذ تحتوي التربة الصينية على كميات كبيرة من الأملاح، وقد تصبح هذه الأملاح أكثر تركيزا في المناطق التي يقل فيها الأمطار وترتفع فيها نسبة التبخر. وعندما تزيد الملوحة تفقد خلايا النباتات كميات كبيرة من الماء تحت أثر الضغط الإسموزي، وهذه العملية تحد من نمو النباتات وتقلل إنتاجيتها.
وعثر الباحثون على صفات وراثية في بعض الأصناف من الأرز تساعد الأرز الأخضر الفائق على تحمل مستويات الملح المرتفعة والضغط الإسموزي. واستخدموا تقنية “التهجين الرجعي” لنقل الجينات المرتبطة ببعض الصفات الوراثية من صنف لآخر. وينتج الأرز الأخضر محصولا أوفر، كما أظهر قدرة أكبر على تحمل الملوحة مقارنة بالأصناف الأخرى من الأرز.
وفي الوقت نفسه، تبحث جولي غراي، الأستاذة في تحليل إشارات خلايا النباتات بجامعة شيفيلد ببريطانيا، عن سبل لإنتاج أصناف جديدة من الأرز تستهلك كميات أقل من المياه باستخدام الهندسة الحيوية.
وتجري غراي تجارب على الأرز الذي تحوي أوراقه وسيقانه مساما دقيقة، تسمى ثغورا، تجعله أكثر قدرة على تحمل الجفاف.
وتتحكم النباتات بطبيعتها في الثغور لتنظيم كمية ثاني أكسيد الكربون التي تمتصها وحجم المياه التي تفقدها. وكلما زاد عدد الثغور زادت كميات المياه التي تفقدها النباتات من الأوراق.
وقد عثرت غراي وزملاؤها على الجين الذي يؤثر على نمو الثغور في الأرز، ومن ثم استطاعوا أن يخفضوا أعداد الثغور في الأرز إلى النصف دون التأثير على المحصول أو قدرة النباتات على التحكم في ثغورها.
وبتقليل عدد الثغور، ستحتفظ النباتات بكميات أكبر من المياه بداخلها وتمتص الجذور كميات أقل من المياه بما يصل إلى 40 في المئة.
لكن غراي تقول إن ثمة عوائق عديدة اجتماعيا وسياسيا تحول دون انتشار الأزر المعدل وراثيا. ولهذا تبحث عن سبل لإنتاج هذا الأرز عبر أساليب التهجين التقليدية، دون اللجوء للتعديل الوراثي.
وتوافقها الرأي جاكلين ماكغليد، أستاذة البيئة بكلية غريشام بلندن، حول أهمية أساليب التهجين التقليدية في مواجهة تبعات تغير المناخ على المحاصيل، وتقول إن التنوع الحيوي في الطبيعة مليء بالفرص التي لم تستغل بعد.
وقد تستخدم أصناف البذور التي يحتفظ بها المزارعون في إنتاج أصناف نباتات جديدة قادرة على تحمل الظروف الجوية المحلية
إطلالة من الفضاء
وأُطلقت بعض الأقمار الصناعية لمراقبة الأراضي والمحاصيل الزراعية، مثل الأرز، منها أقمار “سنتينل” الأوروبية وأقمار “لاندسات” التي أطلقتها وكالة ناسا الفضائية. وترسل هذه الأقمار بيانات تساعد المزارعين على حفظ المياه.
ويلتقط قمر لاندسات صورا بتقنية التصوير بالإشعاع الحراري، لقياس درجة حرارة سطح الأرض، وهذه الصور تساعد المزارعين في التعرف على درجات حرارة كل حقل وتقدير كميات المياه التي ستفقدها.
وعلى مدى 40 عاما، استخدمت بيانات لاندسات في إدارة حقوق المياه بين الولايات الأمريكية، وتقييم كفاءة تدابير حفظ المياه في إثيوبيا، وتحديد الأماكن المثلى لحفر الآبار الجوفية في كينيا. واستعان بها المزارعون في تحديد كميات المياه التي تفقدها حقولهم وكميات المياه التي تحتاجها.
إذ ساعدت بيانات لاندسات في تحديد كميات المياه المطلوبة لري محاصيل اللوز في كاليفورنيا، التي تستهلك كميات كبيرة من المياه.
لكن ماكغليد تلفت إلى أن هذه البيانات لا تحل محل الخبرة المحلية للمزارعين. إذ تستخدم قبيلة مراكويت في كينيا على سبيل المثال، منذ مئات السنين نظام ري خاص يعتمد على قنوات ري على المنحدرات لتوزيع المياه بين الحقول.
وتقول ماكغليد إن المزارعين ينبغي أن يكون لهم الحق في اتخاذ قراراتهم بأنفسهم بناء على الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية.
ومنذ 15 عاما، ضربت جنوب أستراليا موجة جفاف حادة، دفعت تشارلي أرنوت، أحد رعاة الأبقار والماشية والخنازير في أستراليا، إلى تغيير أساليب الرعي التي كان يتبعها.
واضطر أرنوت إلى بيع بعض مواشية بثمن بخس، ونقل البعض الآخر إلى مناطق تبعد 10 ساعات بحثا عن الطعام. ويقدر أرنوت خسارته بنحو 300 ألف دولار أسترالي جراء الجفاف.
وأعاد أرنوت النظر في الطريقة التي كان يدير بها أرضه، وانضم إلى ورشة عمل عن “الزراعة الحافظة للموارد”، وبعدها أصبح يهتم بالموارد الطبيعية أكثر من اهتمامه بالماشية.
وعمليا، يترك الآن أرنوت الكلأ لينمو لثلاثة أو خمسة شهور، قبل أن يسمح للماشية بالرعي، ويواظب على نقل الماشية بين الحين والآخر. وبذلك يحافظ أرنوت على الغطاء النباتي لأطول وقت ممكن، لأنه يساعد التربة على امتصاص مياه الأمطار ويحميها من الشمس ومن مياه الفيضانات التي تجرف التربة أثناء جريانها إلى الأنهار.
ويطلق على هذا النمط من الرعي، الزراعة المحافظة على الموارد أو الزراعة المجددة للتربة المتدهورة أو الزراعة الموفرة للموارد، وينسب له الفضل في تحسين رطوبة التربة في الهند وكثافة الغطاء النباتي في مراعي كاليفورنيا، وارتفاع دخول المزارعين في أستراليا.
ويرى مؤيدو الزراعة الحافظة للموارد أنها تصلح لجميع الأراضي، رغم أن الأبحاث تشير إلى أنها قد لا تفيد المزارعين من صغار الحائزين.
وثمة طرق أخرى عديدة يستجيب بها المزارعون والعلماء لنقص المياه الشديد، منها زراعة محاصيل أقل استهلاكا للماء، وتحلية مياه البحر وتسخير الطاقة الشمسية لري المحاصيل وبناء السدود الرملية واستخدام طرق أبسط لجمع مياه الأمطار.
لكن أيا كانت الحلول، فقد بدا واضحا أننا لن نتمكن من مواجهة شح المياه من دون ابتكار حلول جديدة وخلاقة.